سورة الطلاق - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


{يا أيها النبي}: نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه، {إذا طلقتم}: خطاب له عليه الصلاة والسلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب، أقبل عليه السلام أولاً، ثم رجع إليهم بالخطاب، أو على إضمار القول، أي قل لأمتك إذا طلقتم، أو له ولأمته، وكأنه ثم محذوف تقديره: يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، فالخطاب له ولهم، أي أنت وأمتك، أقوال. وقال الزمخشري: خص النبي صلى الله عليه وسلم، وعمّ بالخطاب، لأن النبي إمام إمته وقدوتهم. كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وأنه مدره قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وساداً مسد جميعهم. انتهى، وهو كلام حسن.
ومعنى {إذا طلقتم}: أي إذا أردتم تطليقهن، والنساء يعني: المدخول بهن، وطلقوهن: أي أوقعوا الطلاق، {لعدتهن}: هو على حذف مضاف، أي لاستقبال عدّتهن، واللام للتوقيت، نحو: كتبته لليلة بقيت من شهر كذا، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور، أي مستقبلات لعدتهن، ليس بجيد، لأنه قدر عاملاً خاصاً، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصاً، بل إذا كان كوناً مطلقاً. لو قلت: زيد عندك أو في الدار، تريد: ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار، لم يجز. فتعليق اللام بقوله: {فطلقوهن}، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح.
وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين، رضي الله تعالى عنهم، من أنهم قرأوا: فطلقوهن في قبل عدتهن؛ وعن بعضهم: في قبل عدّتهن؛ وعن عبد الله: لقبل طهرهن، هو على سبيل التفسير، لا على أنه قرآن، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله: {ثلاثة قروء} والمراد: أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، فإن شاء ردها، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج؛ وهذا الطلاق أدخل في السنة. وقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة. وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا. وقال الشافعي: لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، راعى في السنة الوقت فقط، وأبو حنيفة التفريق والوقت.
وقوله: {فطلقوهن} مطلق، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع؛ والجمهور: على أنه لو طلق لغير السنة وقع. وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين: أنه لو طلق في حيض أو ثلاث، لم يقع.
والظاهر أن الخطاب في {وأحصوا العدّة} للأزواج: أي اضبطوا بالحفظ، وفي الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء. وإذا أراد أن يطلق ثلاثاً، والعلم بأنها قد بانت، فيتزوج بأختها وبأربع سواها.
ونهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة، ونهاهنّ أيضاً عن خروجهنّ، وأضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها، ونهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج، إذ لا أثر لإذنهم. والإسكان على الزوج، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك، أو ملكها فلها عليه أجرته، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوبة، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهاراً إلا لضرورة، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء. {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}: وهي الزنا، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث، ورواه مجاهد عن ابن عباس، فيخرجن للحد. وعن ابن عباس: البذاء على الاحماء، فتخرج ويسقط حقها في السكنى، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب. وعنده أيضاً: جميع المعاصي، من سرقة، أو قذف، أو زنا، أو غير ذلك، واختاره الطبري، فيسقط حقها في السكنى. وعند ابن عمر والسدي وابن السائب: هي خروجها من بيتها خروج انتقال، فيسقط حقها في السكنى. وعند قتادة أيضاً: نشوزها عن الزوج، فتطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه سكنى؛ وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة. {لا تدري} أيها السامع، {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}، قال المفسرون: الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها، والميل إليها بعد انحرافه عنها؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله. ونصب لا تدري على جملة الترجى، فلا تدري معلقة عن العمل، وقد تقدم لنا الكلام على قوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري.
{فإذا بلغن أجلهن}: أي أشرفن على انقضاء العدّة، {فأمسكوهنّ}: أي راجعوهنّ، {بمعروف}: أي بغير ضرار، {أو فارقوهنّ بمعروف}: أي سرحوهنّ بإحسان، والمعنى: اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ، فيملكن أنفسهنّ. وقرأ الجمهور: {أجلهن} على الإفراد؛ والضحاك وابن سيرين: آجالهنّ على الجمع. والإمساك بمعروف: هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج، والمفارقة بمعروف: هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط. {وأشهدوا}: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} وعند الشافعية واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وقيل: {وأشهدوا}: يريد على الرجعة فقط، والإشهاد شرط في صحتها، فلها منفعة من نفسها حتى يشهد. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالاً كثيرة، ويفسد تاريخ الإشهاد من الإشهاد.
قيل: وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث. انتهى. ومعنى منكم، قال الحسن: من المسلمين. وقال قتادة: من الأحرار. {وأقيموا الشهادة لله}: هذا أمر للشهود، أي لوجه الله خالصاً، لا لمراعاة مشهود له، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق. {ذلكم}: إشارة إلى إقامة الشهادة، إذ نوازل الأشياء تدور عليها، وما يتميز المبطل من المحق.
{ومن يتق الله}، قال علي بن أبي طالب وجماعة: هي في معنى الطلاق، أي ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك، يجعل الله له مخرجاً إن ندم بالرجعة، {ويرزقه} ما يطعم أهله. انتهى. ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله، فبت الطلاق وندم، لم يكن له مخرج، وزال عنه رزق زوجته. وقال ابن عباس: للمطلق ثلاثاً: إنك لم تتق الله، بانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً. وقال: {يجعل له مخرجاً}: يخلصه من كذب الدنيا والآخرة. والظاهر أن قوله: {ومن يتق الله} متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق. وروي أنها في غير هذا المعنى، وهو أن أسر ابن يسمى سالماً لخوف بن مالك الأشجعي، فشكا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بالتقوى فقبل، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل، كذا في الكشاف. وفي الوجيز: قطيعاً من الغنم كانت للذين أسروه، وجاء أباه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيطيب له؟ فقال: «نعم»، فنزلت الآية. وقال الضحاك: من حيث لا يحتسب امرأة أخرى. وقيل: ومن يتق الحرام يجعل له مخرجاً إلى الحلال. وقيل: مخرجاً من الشدة إلى الرخاء. وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: من العقوبة، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب. وقال الكلبي: ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إلى الجنة.
{ومن يتوكل على الله}: أي يفوض أمره إليه، {فهو حسبه}: أي كافيه. {إن الله بالغ أمره}، قال مسروق: أي لا بد من نفوذ أمر الله، توكلت أم لم تتوكل. وقرأ الجمهور: بالغ بالتنوين، أمره بالنصب؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي: بالإضافة؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو: بالغ أمره، رفع: أي نافذ أمره. والمفضل أيضاً: بالغاً بالنصب، أمره بالرفع، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال، وخبر إن هو قوله تعالى: {قد جعل الله}، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين، كقوله:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن *** خطاك خفافاً أن حراسنا أسدا
ومن رفع أمره، فمفعول بالغ محذوف تقديره: بالغ أمره ما شاء. {قد جعل الله لكل شيء قدراً}: أي تقديراً وميقاتاً لا يتعداه، وهذه الجمل تحض على التوكل. وقرأ جناح بن حبيش: قدراً بفتح الدال، والجمهور بإسكانها.


وروي أن قوماً، منهم أبيّ بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} قالوا: يا رسول الله، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية، فقال قائل: فما عدة الحامل؟ فنزلت {أولات الأحمال}. وقرأ الجمهور: {يئسن} فعلاً ماضياً. وقرئ: بياءين مضارعاً، ومعنى {إن ارتبتم} في أنها يئست أم لا، لأجل مكان ظهور الحمل، وإن كان انقطع دمها. وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، أهو دم حيض أو استحاضة؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك. وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين. وقيل: غالب سن يأس عشيرة المرأة. وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة. وقيل: {إن ارتبتم}: شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر. واختار الطبري أن معنى {إن ارتبتم}: شككتم فلم تدروا ما الحكم، فقيل: {إن ارتبتم}: أي إن تيقنتم إياسهن، وهو من الأضداد. وقال الزجاج: المعنى إن ارتبتم في حيضها، وقد انقطع عنها الدم، وكانت مما يحيض مثلها. وقال مجاهد أيضاً: {إن ارتبتم} هو للمخاطبين، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة، {واللائي لم يحضن}، فالعدة هذه، فتلخص في قوله: {إن ارتبتم} قولان: أحدهما، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه، وهو حصول الشك؛ والآخر، أن معناه التيقن للإياس؛ والقول الأول معناه: إن ارتبتم في دمها، أهو دم حيض أو دم علة؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا؛ أو إن ارتبتم: أي جهلتم عدتهن، أقوال. والظاهر أن قوله: {واللائي لم يحضن} يشمل من لم يحض لصغر، ومن لا يكون لها حيض البتة، وهو موجود في النساء، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض. ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض فقيل: هذه تعتد سنة. {واللائي لم يحضن} معطوف على {واللائي يئسن}، فإعرابه مبتدأ كإعراب {واللائي يئسن}، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول، أي عدتهن ثلاثة أشهر، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك، فيكون المقدر مفرداً جملة. {وأولات الأحمال} عام في المطلقة وفي المتوفي عنها زوجها، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار. وقال علي وابن عباس: {وأولات الأحمال} في المطلقات، وأما المتوفي عنها فعدتها أقصى الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها، والحجة عليها حديث سبيعة. وقال ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت {وأولات الأحمال} إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها.
وقرأ الجمهور: {حملهن} مفرداً؛ والضحاك: أحمالهن جمعاً.
{ذلك أمر الله}: يريد ما علم من حكم المعتدات. وقرأ الجمهور: {ويعظم} بالياء مضارع أعظم؛ والأعمش: نعظم بالنون، خروجاً من الغيبة للتكلم؛ وابن مقسم: بالياء والتشديد مضارع عظم مشدداً.
ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى، مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله: {ومن يتق الله}، إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها، فلذلك تكرر قوله: {ومن يتق الله} في العمل بما أنزله من هذه الأحكام، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر. ومن في {من حيث سكنتم} للتبعيض: أي بعض مكان سكناكم. وقال قتادة: إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه، قاله الزمخشري. وقال الحوفي: من لابتداء الغاية، وكذا قال أبو البقاء. و{من وجدكم}. قال الزمخشري: فإن قلت: فقوله: {من وجدكم}. قلت: هو عطف بيان، كقوله: {من حيث سكنتم} وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه، والوجد: الوسع والطاقة. انتهى. ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله: {من حيث سكنتم}.
وقرأ الجمهور: {من وجدكم} بضم الواو؛ والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة: بفتحها؛ والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب: بكسرها، وذكرها المهدوي عن الأعرج، وهي لغات ثلاثة بمعنى: الوسع. والوجد بالفتح، يستعمل في الحزن والغضب والحب، ويقال: وجدت في المال، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة، ووجدت الضالة وجداناً والوجد بالضم: الغنى والقدرة، يقال: افتقر الرجل بعد وجد. وأمر تعالى بإسكان المطلقات، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت. وأما المبتوتة، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد: لها السكنى، ولا نفقة لها. وقال الثوري وأبو حنيفة: لها السكنى والنفقة. وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا سكنى لها ولا نفقة. {ولا تضاروهن}: ولا تستعملوا معهن الضرار، {لتضيقوا عليهن} في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن، أو يشغل مكانهن، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج. وقيل: هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية. وقيل: إلجاؤها إلى أن تفتدي منه.
{وإن كن أولات حمل}: لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها، بتت أو لم تبت.
فإن كانت متوفى عنها، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها؛ وعن علي وابن مسعود: تجب نفقتها في التركة. {فإن أرضعن لكم}: أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن، ويجوز عند الشافعي. وفي تعميم المطلقات بالسكنى، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة، وتشاركهن في السكنى. {وائتمروا}: افتعلوا من الأمر، يقال: ائتمر القوم وتأمروا، إذا أمر بعضهم بعضاً؛ والخطاب للآباء والأمهات، أي وليأمر بعضكم بعضاً {بمعروف}: أي في الأجرة والإرضاع، والمعروف: الجميل بأن تسامح الأم، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليه. وقال الكسائي: {وائتمروا}: تشاوروا، ومنه قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} وقول امرئ القيس:
ويعدو على المرء ما يأتمر ***
وقيل: المعروف: الكسوة والدثار. {وإن تعاسرتم}: أي تضايقتم وتشاكستم، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية، وأبي الزوج الزيادة، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً، وأبت هي إلا بعوض، {فسترضع له أخرى}: أي يستأجر غيرها، وليس له إكراهها. فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة، بل المنكوحة في معناها. وقيل: فسترضع خبر في معنى الأمر، أي فلترضع له أخرى. وفي قوله: {فسترضع له أخرى} يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك، تريد: لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. والضمير في له عائد على الأب، كما تعدى في قوله: {فإن أرضعن لكم}: أي للأزواج.
{لينفق} الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه، أي على المطلقات والمرضعات، ولا يكلف ما لا يطيقه. والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم. وقال محمد بن المواز: إنها على الأبوين على قدر الميراث. وفي الحديث: «يقول لك ابنك انفق عليّ إلى من تكلني»، ذكره في صحيح البخاري. وقرأ الجمهور: {لينفق} بلام الأمر، وحكى أبو معاذ: لينفق بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره: شرعنا ذلك لينفق. وقرأ الجمهور: {قدر} مخففاً؛ وابن أبي عبلة: مشدد الدال، سيجعل الله وعد لمن قدر عليه رزقه، يفتح له أبواب الرزق. ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت، ولا بفقراء الأزواج مطلقاً، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر، ولو عجز عن نفقة امرأته. فقال أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يفرق بينهما. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة: لا يفرق بينهما.


تقدم الكلام على كأين في آل عمران، وعلى نكراً في الكهف. {عتت}: أعرضت، {عن أمر ربها}، على سبيل العناد والتكبر. والظاهر في {فحاسبناها} الجمل الأربعة، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها: {أعد الله لهم عذاباً شديداً}، وظاهره أن المعد عذاب الآخرة، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة، فلم تغتفر لهم زلة، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب. وقيل: الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة، وجيء به على لفظ الماضي، كقوله: {ونادى أصحاب الجنة} ويكون قوله: {أعد الله لهم} تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال: أعد الله لهم هذا العذاب. وقال الكلبي: الحساب في الآخرة، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف.
ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيراً من عقابه، ونبه على ما يحض على التقوى، وهو إنزال الذكر. والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. فإما أن يجعل نفس الذكر مجازاً لكثرة يقدر منه الذكر، فكأنه هو الذكر، أو يكون بدلاً على حذف مضاف، أي ذكر رسول. وقيل: {رسولاً} نعت على حذف مضاف، أي ذكراً، ذا رسول. وقيل: المضاف محذوف من الأول، أي ذا ذكر رسولاً، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً. وقيل: رسول بمعنى رسالة، فيكون بدلاً من ذكر، أو يبعده قوله بعده {يتلو عليكم}، والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازاً. وقيل: الذكر أساس أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذكر: الشرف لقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له. وقال الكلبي: الرسول هنا جبريل عليه السلام، وتبعه الزمخشري فقال: رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فصح إبداله منه. انتهى. ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد. وقيل: رسولاً منصوب بفعل محذوف، أي بعث رسولاً، أو أرسل رسولاً، وحذف لدلالة أنزل عليه، ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي: يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر. انتهى. فيكون المصدر مقدراً بأن، والقول تقديره: إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل، أو {إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} كما قال الشاعر:
بضرب بالسيوف رءوس قوم *** أزلنا هامهن عن المقيل
وقرئ: رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج، يصح أن يتعلق بيتلو وبأنزل. {الذين آمنوا}: أي الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه.
وقال الزمخشري: ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح، لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ. انتهى. والضمير في {ليخرج} عائد على الله تعالى، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على الذكر. {ومن يؤمن}: راعى اللفظ أولاً في من الشرطية، فأفرد الضمير في {يؤمن}، {ويعمل}، و{يدخله}، ثم راعى المعنى في {خالدين}، ثم راعى اللفظ في {قد أحسن الله له} فأفرد. واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً، ثم مراعاة المعنى، ثم مراعاة اللفظ. وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا، لأن الضمير في {خالدين} ليس عائداً على من، بخلاف الضمير في {يؤمن}، {ويعمل}، و{يدخله}، وإنما هو عائد على مفعول {يدخله}، و{خالدين} حال منه، والعامل فيها {يدخله} لا فعل الشرط.
{الله الذي خلق سبع سماواتٍ}: لا خلاف أن السموات سبع بنص القرآن والحديث، كما جاء في حديث الإسراء، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد: «حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة»، وغيره من نصوص الشريعة. وقرأ الجمهور: {مثلهن} بالنصب؛ والمفضل عن عاصم، وعصمة عن أبي بكر: مثلُهن بالرفع فالنصب، قال الزمخشري: عطفاً على {سبع سماواتٍ}. انتهى، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف، وهو الواو، والمعطوف؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه، أي وخلق من الأرض مثلهن، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء، {ومن الأرض} الخبر، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف. فقال الجمهور: المثلية في العدد: أي مثلهن في كونها سبع أرضين. وفي الحديث: «طوقه من سبع أرضين ورب الأرضين السبع وما أقللن»، فقيل: سبع طباق من غير فتوق. وقيل: بين كل طبقة وطبقة مسافة. قيل: وفيها سكان من خلق الله. قيل: ملائكة وجن. وعن ابن عباس، من رواية الواقدي الكذاب، قال: في كل أرض آدم كآدم، ونوح كنوح، ونبي كنبيكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسى، وهذا حديث لا شك في وضعه. وقال أبو صالح: إنها سبع أرضين منبسطة، ليس بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار، وتظل جميعها السماء.
{يتنزل الأمر بينهن}: من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال مقاتل وغيره: الأمر هنا الوحي، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة. وقال الأكثرون: الأمر: القضاء، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: {يتنزل الأمر بينهن} بحياة وموت وغنى وفقر. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير. وقرأ الجمهور: {يتنزل} مضارع تنزل. وقرأ عيسى وأبو عمر، وفي رواية: ينزل مضارع نزل مشدّداً، الأمر بالنصب؛ والجمهور: {لتعلموا} بتاء الخطاب. وقرئ: بياء الغيبة، والله تعالى أعلم.